فصل: فصل العقل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **


  فصل الحرص على الثقافة

للفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك فإن الفقه يجتاح إلى جميع العلوم فليأخذ من كل شيء منها مهماً‏.‏

ولقد رأيت بعض الفقهاء يقول‏:‏ اجتمع الشبلي وشريك القاضي فاستعجبت له كيف لا يدري بعد ما بينهما‏.‏

وقال آخر في مناظرة‏:‏ كانت الزوجية بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما غير منقطعة الحكم فلهذا غسلها‏.‏

فقلت له‏:‏ ويحك فقد تزوج أمامة بنت زينب وهي ابنة أختها فانقطع‏.‏

ورأيت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الأحاديث والتواريخ فجمعت من أغاليطه في كتاب‏.‏

وقد ذكر في كتاب له سماه المستظهري وعرضه على المستظهر بالله‏:‏ أن سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم فقال له‏:‏ ابعث لي من فطورك فبعث إليه نخالة مقلوة فأفطر عليها ثم جامع زوجته فجاءت بعبد العزيز ثم ولد له عمر‏.‏

وهذا تخليط قبيح فإنه جعل عمر بن عبد العزيز بن سليمان بن عبد الملك فجعل سليمان جده وإنما هو ابن عمه‏.‏

وقد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب الشامل في الأصول قال‏:‏ قد ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجبائي القرمطي وابن المقفع تواصل على قلب الدول وإفساد المملكة واستعطاف القلوب وارتياد كل منهم قطراً فقطن الجبائي في الأحسا وتوغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك وقطن الحلاج ببغداد فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الانخداع وتوفر فطنتهم وصدق فراستهم‏.‏

قلت‏:‏ ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور فقتل في سنة أربع وأربعين ومائة‏.‏

وأبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر إلى سنة ست وثمانين ومائتين‏.‏

والحلاج قتل سنة تسع وثلاثمائة‏.‏

فزمان القرمطي والحلاج متقاربان فأما ابن المقفع فكلا‏.‏

فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم فيطالع منها طرفاً إذ لكل علم بعلم تعلق‏.‏

وأقبح بمحدث يسأل عن حادثة فلا يدري وقد شغله منها جمع طرق الأحاديث‏.‏

وقبيح بالفقيه أن يقال له‏:‏ ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فلا يدري صحة الحديث ولا معناه‏.‏

  فصل همة العالم

كانت همم القدماء من العلماء علية تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم‏.‏

ألا إن أكثر تصانيفهم دثرت لأن همم الطلاب ضعفت فصاروا يطلبون المختصرات ولا ينشطون للمطولات‏.‏

ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها فدثرت الكتب ولم تنسخ‏.‏

فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد وما يخلو كتاب من فائدة‏.‏

وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد‏.‏

فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانفيهم وأخبارهم فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم كما قال‏:‏ فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلّي أرى الديار بسمعي وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز‏.‏

ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر وكتب أبي محمد بن محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه‏.‏

ولو قلت‏:‏ إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب‏.‏

فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع‏.‏

فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد‏.‏

 فصل الكفر حماقة

ليس للآدمي أعز من نفسه وقد عجبت ممن يخاطر بها ويعرضها للهلاك‏.‏

والسبب في ذلك قلة العقل وسوء النظر فمنهم من يعرضها للتلف ليمدح بزعمه‏.‏

مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع ومنهم من يصعد إلى إيوان كسرى ليقال شاطر وساع يمشي فإن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها‏.‏

وأعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلاك ولا يدري مثل أن يغضب فيقتل المسلم فيشفى غيظه بالتعذيب في جهنم‏.‏

وأظرف من هذا اليهود والنصارى فإن أحدهم يبلغ فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فإذ فرط فمات فله الخلود في جهنم‏.‏

ولقد قلت لبعضهم‏:‏ ويحك تخاطر بنفسك في عذاب الأبد نحن نؤمن بنبيكم فنقول‏:‏ لو أن مسلماً آمن بنبينا وكذب بنبيكم أو بالتوراة خلد في النار فما بيننا وبينكم خلاف‏.‏

إذ نحن مؤمنون بصدقه وكتابه فلو لقيناه لم نخجل ولو عاتبنا مثلاً وقال‏:‏ هل قمتم بالسبت والسبت من الفروع والفروع لا يعاقب عليها بالخلود‏.‏

فقال لي رئيس القوم‏:‏ ما نطالبكم بهذا لأن السبت إنما يلزم بني إسرائيل‏.‏

فقلت‏:‏ فقد سلمنا بإجماعكم وأنتم هالكون لأنكم تخاطرون بأرواحكم في العذاب الدائم‏.‏

والعجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم‏.‏

وأعجب من الكل جاحد الخالق وهو يرى أحكام الصنعة ويقول لا صانع‏.‏

والسبب في هذه الأشياء كلها قلة العقل وترك إعماله في النظر والاستدلال‏.‏

لا ينبغي للعاقل أن يظهر سراً حتى يعلم أنه إذا ظهر لا يتأذى بظهوره‏.‏

ومعلوم أن السبب في بث السر طلب الاستراحة ببثه وذلك ألم قريب فليصبر عليه‏.‏

فرب مظهر سراً لزوجته فإذا طلقت بثته وهلك‏.‏

أو لصديقه فيظهر عليه حسداً له إذا كان مماثلاً وإن كان عامياً فالعامي أحمق‏.‏

ورب سر أظهر فكان سبب الهلاك‏.‏

  فصل تكاليف المجد

ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم‏.‏

والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره‏.‏

ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب ومذ فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان انقطعوا فلازمهم الفقر ضرورة‏.‏

والفضائل تنادي ‏"‏ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ‏"‏‏.‏

فكلما خافت من ابتلى قالت‏:‏ لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ولما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم وكان فقيراً بقي أربعين سنة يتشاغل به ولا ومن يطيق ما أطاق فقد رد من المال خمسين ألفاً وكان يأكل الكامخ ويتأدم بالملح‏.‏

فما شاع له الذكر الجميل جزافاً ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب‏.‏

فيا له ثناء ملأ الآفاق وجمالاً زين الوجود وعزا نسخ كل ذل‏.‏

هذا في العاجل وثواب الآجل لا يوصف‏.‏

وتلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف ولا تزار‏.‏

ترخصوا وتأولوا وخالطوا السلاطين فذهبت بركة العلم ومحى الجاه ووردوا عند الموت حياض الندم‏.‏

فيا لها حسرات لا تتلافى وخسراناً لا ينجبر وكانت صحبة اللذات طرفة عين ولازم الأسف دائماً‏.‏

فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب ويبقى الأسى وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا نفس ما هو إلاّ صبر أيام كأن مدتها أضغاث أحلام يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة وخل عنها فإن العيش قدامي ثم أيها العالم الفقير أيسرك ملك سلطان من السلاطين وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه‏.‏

كلا ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا‏.‏

ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن أو معنى عجيب تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية‏.‏

فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت وقد شاركتهم في قوام العيش ولم يبق إلا الفضول الذي إذا أخذ لم يكد يضر‏.‏

ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالباً وأنت على السلامة في الأغلب‏.‏

فتلمح يا أخي عواقب الأحوال واقمع الكسل المثبط عن الفضائل‏.‏

فإن كثيراً من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات وأسف‏.‏

رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام فقال له الشيخ‏:‏ أكثر ما عندكم الغفلة وأكثر ما عندنا الندامة‏.‏

فاهرب وفقك الله قبل الحبس وافسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش‏.‏

واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا وأن يسير التفريط يشين وجه المحاسن‏.‏

فالبدار البدار ونفس النفس يتردد وملك الموت غائب ما قدم بعد وانهض بعزيمة عازم‏:‏ إذا همّ ألقى بين عيينة عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا وإذا يستشر في أمره غير نفسه ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا وارفض في هذه العزيمة الدنيا وأربابها فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم فنحن الأغنياء وهم الفقراء‏.‏

كما قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف‏.‏

فأبناء الدنيا أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حراماً أو شبهة‏.‏

وهو وإن لم يؤثر ذلك فوكيله يفعله ولا يبالي هو بقلة دين وكيله‏.‏

وإن عمروا داراً سخروا الفعلة وإن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح‏.‏

ثم كل منهم خائف أن يقتل أو يعزل أو يشتم فعيبهم نقص‏.‏

ونحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة ولا نخاف من عدو ولا ولايتنا تقبل العزل‏.‏

والعز في الدنيا لنا لا لهم وإقبال الخلق علينا وتقبيل أيدينا وتعظيمنا عندهم كثير‏.‏

وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى‏.‏

فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا‏.‏

وإن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب ومرارة المنن لا تفي بالمأخوذ‏:‏ وإنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنها أيام قلائل‏.‏

والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا يطلبه ذو نفس شريفة كيف يذل لبذل من لا ربّ قوم في خلائهم عرر قد صيروا غررا ستر المال القبيح لهم سترى - إن زال - ما سترا أيقظنا الله من رقدة الغافلين ورزقنا فكر المتيقظين‏.‏

ووفقنا للعمل بمقتضى العلم والعقل إنه قريب مجيب‏.‏

  فصل الرفق بالبدن

لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب‏.‏

فترى في الناس من يتزهد وقد ربى جسده على الترف فيعرض عما ألفه فتتجدد له الأمراض فتقطعه عن كثير من العبادات‏.‏

وقد قيل‏:‏ عودوا كل بدن ما اعتاد وقد قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضب فقال‏:‏ أجدني أعافه لأنه ليس بأرض قومي‏.‏

وفي حديث الهجرة‏:‏ أن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظل وفرش له فروة وصب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد‏.‏

وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم فقال‏:‏ إن كان عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج وفي الصحيح‏:‏ أنه كان يحب الحلوى والعسل وكان إذا لم يقدر أكل ما حضر‏.‏

ولعمري إن في العرب وأهل السواد من لا يؤثر عنده التخشن في المطعم والملبس وذاك إذا جرى بعد نوبته على عادته لم يستضر فأما من قد ألف اللطف فإنه إذا غير حالته تغير بدنه وقلت عبادته‏.‏

وقد كان الحسن يديم أكل اللهم ويقول لا رغيفي مالك ولا صحني فرقد‏.‏

وكان ابن سيرين لا يخلي منزله من حلوى‏.‏

وكان سفيان الثوري يسافر وفي سفرته الحمل المشوي والفالوذج‏.‏

وقالت رابعة‏:‏ ما أرى البدن يراد به العمل لله إذا أكل الفالوذج عيباً‏.‏

فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه‏.‏

وقد عرفت هذا من نفسي فإني ربيت في ترف فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى أثر معي مرضاً قطعني عن كثير من التعبد‏.‏

حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن فتناولت يوماً ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها‏.‏

قلت‏:‏ إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات إن تناولها لطاعة عظيمة‏.‏

وإن مطعماً يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر‏.‏

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه حضر عنده وقد تغير من التقشف فقال له‏:‏ من أمرك بهذا‏!‏‏.‏

فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه كما ينقي الغازي شعير الدابة‏.‏

ولا تظنن أني آمر بأكل الشهوات ولا بالإكثار من الملذوذ إنما آر بتناول ما يحفظ النفس وأنهي عما يؤذي البدن‏.‏

فأما التوسع في المطاعم فإنه سبب النوم والشبع يعمي القلب ويهزل البدن ويضعفه‏.‏

فافهم ما أشرت إليه فالطريق هي الوسطى‏.‏

  فصل غفلات المعصية

إذا تكامل العقل قوي الذكاء والفطنة‏.‏

والذكي يتخلص إذا وقع في آفة كما قال الحسن‏:‏ إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع فأما المغفل فيجني على نفسه المحن‏.‏

هؤلاء إخوة يوسف عليهم السلام أبعدوه عن أبيه ليتقدموا عنده وما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم وتهمته إياهم تبغضهم إليه ثم رموه في الجب فقالوا‏:‏ ‏"‏ يلتقطه بعض السيارة ‏"‏ وليس بطفل إنما هو صبي كبير‏.‏

وما علموا أنه إذا التقط يحدث بحاله فيبلغ الخبر إلى أبيه وهذا تغفيل‏.‏

ثم إنهم قالوا‏:‏ أكله الذئب وجاءوا بقميصه صحيحاً ولو خرقوه احتمل الأمر‏.‏

ثم لما مضوا إليه يتمارون قال‏:‏ ‏"‏ ائتوني بِأخٍ لكم ‏"‏ فلو فطنوا علموا أن ملك مصر لا غرض له في أخيهم‏.‏

ثم حبسه بحجة ثم قال‏:‏ هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا وكذا هذا كله وما يفطنون‏.‏

فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏ اذهبوا فتحسسوا من يوسف ‏"‏ وكان يوسف عليه السلام قد نهي بالوحي أن يعلم أياه بوجوده‏.‏

ولهذا لما التقيا قال له‏:‏ هلا كتبت إلي فقال‏:‏ إن جبريل عليه السلام منعني‏.‏

فلما نهى أن يعرفه خبره لينفذ البلاء كان ما فعل بأخيه تنبيهاً فصار كأنه يعرض بخطبة وعلى فهم يوسف والله بكى يعقوب لا على مجرد صورته‏.‏

  فصل الصبر والعفة

الآدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم العين تطلب المنظور واللسان يطلب الكلام والبطن يطلب المأكول والفرج المنكوح والطبع يحب جمع المال‏.‏

وقد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة والهوى يشتته‏.‏

فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لازمة من طلب قوت البدن وقوت العيال‏.‏

وهذا يبكر إلى دكانه ويفتكر في التحصيل ويستعمل آلة الفهم في نيل ما لا بد منه‏.‏

فأي هم يجتمع منه خصوصاً إن أخذه الشره في صورة فيمضي العمر فينهض الدكان إلى القبر‏.‏

فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاص القصد أو طلب الفضائل‏.‏

فمن رزق يقظة فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل‏.‏

فإن كان متزهداً بغير عائلة اكتفى بسعي قليل فقد كان السبتي يعمل يوم السبت فيكتفي به طول الأسبوع‏.‏

وإن كان له عائلة جمع همه في نية الكسب عليهم فيكون متعبداً‏.‏

أو أن يكون قنية مال كعقار ناصفة في نفقته ليكفيه دخله‏.‏

وليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده ليجمع الهم في ذكر الآخرة‏.‏

فإن لم يفعل أخذ في غفلته وندم في حفرته‏.‏

وأقبح الأحوال حال عالم فقيه كلما جمع همه لذكر الآخرة شتته طلب القوت للعائلة‏.‏

وربما احتاج إلى التعرض للظلمة وأخذ الشبهات وبذل الوجه فيلزم هذا التقدير في النفقة‏.‏

وإذا حصل له شيء من وجه دبر فيه‏.‏

ولا ينبغي أن يحمله قصر الأمل على إخراج ما في يده فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس‏.‏

وأذل من كل ذل التعرض للبخلاء والأمراء‏.‏

فليدبر أمره ويقلل العلائق ويحفظ جاهه فالأيام قلائل‏.‏

وقد بعث إلى أحمد بن حنبل مال فسأله ابنه قبوله فقال‏:‏ يا صالح صني ثم قال أستخير الله فأصبح فقال‏:‏ يا بني قد عزم لي أن لا أقبله‏.‏

هذا وكان العطاء هنياً وجاءه من وجوه‏.‏

فانعكس الأمر اليوم‏.‏

العزلة عن الخلق سبب طيب العيش‏.‏

ولا بد من مخالطة بمقدار فدار العدو واستحله فربما كادك فأهلكك‏.‏

وأحسن إلى من أساء إليك واستعن على أمورك بالكتمان ولتكن الناس عندك معارف فأما أصدقاء فلا‏.‏

لأن أعز الأشياء وجود صديق ذاك أن الصديق ينبغي أن يكون في مرتبة مماثل‏.‏

فإن صادفته عامياً لم تنتفع به لسوء أخلاقه وقلة علمه وأدبه وإن صادفت مماثلاً أو مقارباً حسدك‏.‏

وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك‏:‏ ‏"‏ ولتعرفنّهم في لحن القول ‏"‏‏.‏

وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده فلا يخرج إليه إلا بما في قلبه‏.‏

فإن أردت العيش فابعد عن الحسود لأنه يرى نعمتك فربما أصابها بالعين‏.‏

فإن اضطررت إلى مخالطته فلا تفش إليه سرك ولا تشاوره ولا يغرنك تملقه لك ولا ما يظهره من الدين والتعبد فإن الحسد يغلب الدين‏.‏

وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل‏.‏

وأن إخوة يوسف باعوه بثمن بخس‏.‏

وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء وعبد الله بن أبي من الرؤساء أخرجهما حسد ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك‏.‏

وكلما امتدت امتد عذابه فلا عيش له وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم‏.‏

ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم‏.‏

  فصل العقل طريق السعادة

من سار مع العقل وخالف طريق الهوى ونظر إلى العواقب أمكنه أن يتمتع من الدنيا أضعاف ما تمتع من استعمل الشهوات‏.‏

فأما المستعجل فيفوت نفسه حظ الدنيا والذكر الجميل ويكون ذلك سبباً لفوات مراده من اللذات‏.‏

وبيان هذا من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ إن مال إلى شهوات النكاح وأكثر منها قل التذاذه وفنيت حرارته وكان ذلك سبباً في عدم مطلوبه منها‏.‏

ومن استعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ويحتمله كان التذاذه أكثر لبعد ما بين الجماعين وكذلك من غش في معاملته أو خان فإنه لا يعامل فيفوته ربح المعاملة الدائمة لخيانته مرة‏.‏

ولو عرف بالثقة دامت معاملة الناس له فزاد ربحه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من اتقى الله وتشاغل بالعلم أو تحقيق الزهد فتح له من المباحات ما يلتذ به

كثيراً‏.‏

ومن تقاعد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد لم يحصل له إلا اليسير من مراده‏.‏

قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَأًنْ لَوِ اسْتقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقاً ‏"‏‏.‏

  فصل الصلة بالله

ينبغي أن يكون العمل كله لله ومعه من أجله‏.‏

وقد كفاك كل مخلوق وجلب لك كل خير‏.‏

وإياك أن تميل عنه بموافقة هوى وإرضاء مخلوق فإنه يعكس عليك الحال ويفوتك المقصود‏.‏

وفي الحديث‏:‏ من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً‏.‏

وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يعيش معه قلت‏:‏ بامتثال أمره واجتناب نهيه ومراعاة حدوده والرضى

فإن احتجب سألته فإن أعطى وإلا رضيت بالمنع وعلمت أنه لم يمنع بخلاً وإنما نظراً لك‏.‏

ولا تنقطع عن السؤال لأنك تتعبد به ومتى دمت على ذلك رزقك محبته وصدق التوكل

عليه فصارت المحبة تدلك على المقصود وأثمرت لك محبته إياك فتعيش عيشة الصديقين‏.‏

ولا خير في عيش إن لم يكن كذا فإن أكثر الناس مخبط في عيشه يداري الأسباب ويميل

إليها بقلبه ويتعب في تحصيل الرزق بحرص زائد على الحد ويرغبه إلى الخلق ويعترض عند

انكسار الأغراض‏.‏

والقدر يجري ولا يبالي بسخط ولا يحصل له إلا ما قدر‏.‏

وقد فاته القرب من الحق والمحبة له والتأدب معه فذلك العيش عيش البهائم‏.‏

  فصل الإسراف شر

نظرت في حكمة المطعم والمشرب والملبس والمنكح فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول

تتحلل وهي الماء والتراب والنار والهواء وبقاؤه إنما يكون بالحرارة والرطوبة والحرارة تحلل

الرطوبة دائماً فلم يكن هل بد من شيء يخلف ما بطل‏.‏

ولما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم أباح الشرع ذبح الحيوان ليتقوى به من هو أشرف منه‏.‏

ولما كان بدنه يحتاج إلى كسوة وله قدرة تمييز وقدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من القطن

والصوف لم يجعل على جلده ما يقيه خلقة بخلاف الحيوان البهيم فإنه لما لم يكن له قدرة

على ما يغطي جلده عوضه بالريش والشعر والوبر‏.‏

ولما لم يكن بد من فناء الآدمي والحيوان هيج شهوة الجماع لتخلف النسل‏.‏

فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار

الحاجة والمصلحة ليقع الالتذاذ بالعافية‏.‏

ومن البلية طلب الالتذاذ بالمطعم وإن كان غير صالح والشره في تناوله وكذلك الكسوة

والنكاح‏.‏

ومن الحزم جمع المال وادخاره لعارض حاجة من ذلك‏.‏

ومن التغفيل إنفاق الحاصل فربما عرضت حاجة فلم يقدر عليها فأثر عدمها في البدن أو في

العرض بطلبها من الأنذال‏.‏

ومن أقبح الأمور الانهماك في النكاح طلباً لصورة اللذة ناسياً ما يجني ذلك من انحلال القوة

ويزيد في الحرام بالعقوبة‏.‏

فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه وآخرته‏.‏

فليفهم مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها فمن لم يفهم ولم يعمل بمقتضى ما فهم كان

كأجهل العوام وإن كان عالماً‏.‏

  فصل في مخالطة الأمراء

العجب ممن له مسكة من عقل أو عنده قليل من دين كيف يؤثر مخالطتهم‏.‏

فإنه بالمخالطة لهم أو العمل معهم يكون قطعاً خائفاً من عزل أو قتل أو سم ولا يمكنه أن يعمل

إلا بمقتضى أوامرهم‏.‏

فإن أمروا بما لا يجوز لم يقدر أن يراجع فقد باع دينه قطعاً بدنياه فمنعه بالخوف من القيام

بأمر الله وضاعت عليه آخرته‏.‏

ولم يبق بيده إلا عاجل التعظيم وأن يقال بين يديه‏:‏ بسم الله وأن ينفذ أوامره‏.‏

وذلك بعيد من السلامة في باب الدين وما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل والقتل‏.‏

  فصل الجزاء من جنس العمل

من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم‏.‏

وفي الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلاً فقد يرفع المحتقر وقد يتمكن من لا يعد‏.‏

فإن أمكن الانتقام منهم كان العفو انتقاماً لأنه يذلهم‏.‏

وينبغي أن يحسن إلى كل أحد خصوصاً من يجوز أن يكون له ولاية وأن يخدم المعزول

فربما نفع في ولايته‏.‏

وقد روينا أن رجلاً استأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد وقال‏:‏ قولوا له أبو جعفر بالباب‏.‏

فلما سمع هش لذلك وقال‏:‏ ائذنوا له‏.‏

فدخل فقام وتلقاه وأكرمه وأعطاه خمسة آلاف وودعه‏.‏

فقيل له‏:‏ رجل من العوام فعلت به هذا‏.‏

قال‏:‏ إني كنت فقيراً وكان هذا صديقاً فجئته يوماً فقلت له‏:‏ أنا جائع‏.‏

فقال‏:‏ اجلس وخرج فجاء بشواء وحلوى وخبز فقال‏:‏ كل‏.‏

فقلت‏:‏ كل معي‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قلت‏:‏ والله لا آكل حتى تأكل معي فأكل فجعل الدم يجري في

فمه‏.‏

فقلت‏:‏ ما هذا فقال‏:‏ مرض‏.‏

فقلت‏:‏ والله لا بد أن تخبرني‏.‏

فقال‏:‏ إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئاً‏.‏

فهلا أكافىء مثل هذا‏.‏

وعلى عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق وكان يضع من المتوكل فلما ولي عذبه

بأنواع العذاب‏.‏

وكذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية فجرت عليه الآفات لما ولي‏.‏

فالعاقل من

تأمل العواقب ورعاها‏.‏

وتصور كل ما يجوز أن يقع فعلم بمقتضى الحزم‏.‏

وأبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلاً لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض‏.‏

فالحازم من استعد له وعمل عمل من لا يندم إذا جاءه‏.‏

وحذر من الذنوب فإنها كعدو مراصداً بالجزاء‏.‏

وادخر لنفسه صالح الأعمال فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة‏.‏

وأبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة وإن

نقص نقصت‏.‏

فهو وإن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره غير أنه قد رضي به ولا يشعر بذلك‏.‏

فرحم الله من تلمح العواقب وعمل بمقتضى التلمح والله تعالى الموفق‏.‏

لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم في تاريخ الملوك والأمم اطلعت على سير الخلق من الملوك

والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والزهاد وغيرهم فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعباً

أذهب أديانهم حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب‏.‏

فمن الأمراء من يقتل ويصادر ويقطع ويحبس بغير حق ثم ينخرط في سلك المعاصي كأن الأمر

إليه أو قد جاءه الأمن من العقاب‏.‏

فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني وينسى أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه

وسلم‏:‏ ‏"‏ قُلْ إِنِّي أًخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏"‏‏.‏

وقد انخرط جمع ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم

العلم‏.‏

ورأينا خلقاً من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم وهذا لأن الدنيا فخ والناس كالعصافير

والعصفور يريد الحبة وينسى الخنق‏.‏

قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلاً إلى عاجل لذاتهم فأقبلوا يسامرون الهوى ولا يلتفتون إلى

مشاورة العقل‏.‏

فلقد باعوا بلذة يسيرة خيراً كثيراً واستحقوا بشهوات مرذولة عذاباً عظيماً‏.‏

فواأسفي لفائت لا يمكن استدراكه ولمرتهن لا يصح فكاكه ولندم لا ينقطع زمانه ولمعذب

عز عليه إيمانه بالله‏.‏

بالله ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها ويعول عليها‏.‏

ولا يمكن قبول مشاورتها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهى‏.‏

فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما وفي العلماء أحمد بن

حنبل رحمة الله عليه وفي الزهاد أويس القرني‏.‏

لقد أعطوا الحزم حقه وفهموا مقصود الوجود‏.‏

وما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى‏.‏

وربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث والعقاب‏.‏

وليس العجب من ذاك إنما العجب من مؤمن يوقن ولا ينفعه يقينه ويعقل العواقب ولا ينفعه

عقله‏.‏

  فصل علو الهمة

من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها كما قال الشاعر‏:‏

وقال الآخر‏:‏

ولكل جسم في النّحول بليةٌ وبلاء جسمي من تفاوت همتي

وبيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ولم يقتصر على بعضها وطلب من كل علم

نهايته وهذا لا يحتمله البدن‏.‏

ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل وصيام النهار والجمع بين ذلك وبين العلم صعب‏.‏

ثم يرى ترك الدنيا ويحتاج إلى ما لا بد منه‏.‏

ويحب الإيثار ولا يقدر على البخل ويتقاضاه الكرم البذل ويمنعه عز النفس عن الكسب من

وجوه التبذل‏.‏

فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر وتأثر بدنه وعائلته‏.‏

وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك‏.‏

وفي الجملة يحتاج إلى معاناة وجمع بين أضداد فهو أبداً في نصب لا ينقضي وتعب لا يفرغ‏.‏

ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه وقوي وصبه فأين هو ومن دنت همته إن كان

فقيهاً فسئل عن حديث قال ما أعرفه وإن كان محدثاً فسئل عن مسألة فقهية قال ما أدري

ولا يبالي إن قيل عنه مقصر‏.‏

والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس ولا يستقبح سؤالهم ولا يأنف من رد والعالي الهمة لا يحمل

ذلك‏.‏

ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى وراحة القصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم‏.‏

والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه‏.‏

فإن سبق فهو المقصود‏.‏

وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم‏.‏

  فصل إعجاب المرء بنفسه

المصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق‏.‏

فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب ولا يبحث ولا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى

الله عليه وسلم‏.‏

وإذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع‏.‏

وكذلك كل ذي هوى يثبت عليه إما لأنه مذهب أبيه وأهله أو لأنه نظر نظراً أول فرآه صواباً

ولم ينظر فيما يناقضه ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه‏.‏

ومن هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فإنهم استحسنوا ما وقع لهم

ولما لقيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان‏.‏

وممن لم يرجع عن هواه ابن ملجم فرأى مذهبه هو الحق فاستحل قتل أمير المؤمنين رضي الله

تعالى عنه ورآه ديناً حتى أنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع‏.‏

فلما طلب لسانه يقطع انزعج وقال‏:‏ كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله‏.‏

ومثل هذا ما له دواء‏.‏

وكذلك كان الحجاج يقول‏:‏ والله ما أرجو الخير إلا بعد الموت‏.‏

هذا قوله وكم قتل من لا يحل قتله منهم سعيد بن جبير‏.‏

وقد أخبرنا عبد الوهاب وابن ناصر الحفاظ قالا أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال أخبرنا

الحسين بن محمد النصيبي قال أخبرنا إسماعيل بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال

حدثنا أبو عيسى الختلي قال حدثنا أبو يعلى قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عاصم عن

عباد بن كثير بن قحدم قال‏:‏ وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثون ألفاً ما يجب على واحد

منهم قطع ولا قتل ولا صلب‏.‏

قلت وعموم السلاطين يقتلون ويقطعون ظناً منهم جواز ذلك ولو سألوا العلماء بينوا لهم‏.‏

وعموم العوام يبارزون بالذنوب اعتماداً على العفو وينسون العقاب‏.‏

فينبغي للإنسان أن يبالغ في معرفة الدليل ولا يساكن شبهته ولا يثق بعلم نفسه نسأل الله

السلامة من جميع الآفات‏!‏‏.‏

‏.‏

‏.‏

  فصل الجزاء العاجل

اعلم أن الجزاء بالمرصاد إن كانت حسنة أو كانت سيئة‏.‏

ومن الاغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح وربما جاءت العقوبة بعد مدة‏.‏

وقل من فعل ذنباً إلا وقوبل عليه قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ من يعمل سوءاً يُجْزَ بهِ ‏"‏‏.‏

هذا آدم عليه السلام أكل لقمة فقد عرفتم ما جرى عليه‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ أوحى الله تعالى إليه ألم اصطنعك لنفسي وأحللتك داري وأسجدت لك

ملائكتي فعصيت أمري ونسيت عهدي‏.‏

وعزتي لو ملأت الأرض كلهم مثلك يعبدون ويسبحون في الليل والنهار ثم عصوني لأنزلتهم

منازل العاصين‏.‏

فنزع جبريل التاج عن رأسه وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه وجذب بناصيته فأهبط‏.‏

فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها فنبتت بتلك المدامع

وكذلك داود عليه السلام نظر نظرة فأوجبت عتابه وبكاءه الدائم حتى نبت العشب من

دموعه‏.‏

وأما سليمان عليه السلام فإن قوماً اختصموا إليه فكان هواه مع أحد الخصمين فعوقب وتغير

في أعين الناس وكان يقول‏:‏ أطعموني فلا يطعم‏.‏

وأما يعقوب عليه السلام فإنه يقال إنه ذبح عجلاً بين يدي أمه فعوقب بفراق يوسف‏.‏

وأما يوسف عليه السلام فأخذ بالهم وكل واحد من إخوته ولد له إثنا عشر ولداً ونقص هو

ولداً لتلك الهمة‏.‏

وأما أيوب عليه السلام فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم لأجل خيل كانت في ناحيته

فابتلى‏.‏

وأما يونس عليه السلام فخرج عن قومه بغير إذن فالتقمه الحوت‏.‏

وأوحى الله عز وجل إلى أرميا‏:‏ إن قومك تركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم وعزتي لأهيجن

عليهم جنوداً لا يرحمون بكاءهم‏.‏

فقال‏:‏ يا رب هم ولد خليلك إبراهيم وأمة صفيك موسى وقوم نبيك داود فأوحى الله تعالى

إليه‏.‏

ونظر بعض العباد شخصاً مستحسناً فقال له شيخه‏:‏ ما هذا النظر ستجد غبه فنسي

القرآن بعد أربعين سنة‏.‏

وقال آخر قد عبت شخصاً قد ذهب بعض أسنانه فانتثرت أسناني‏.‏

ونظرت إلى امرأة لا تحل فنظر إلى زوجتي من لا أريد‏.‏

وكان بعض العاقين ضرب أباه وسحبه إلى مكان فقال له الأب‏:‏ حسبك إلى ههنا سحبت

أبي‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ عيرت رجلاً بالإفلاس فأفلست ومثل هذا كثير‏.‏

ومن أعجبت ما سمعت فيه عن الوزير ابن حصير الملقب بالنظام أن المقتفى غضب عليه وأمر

بأن يؤخذ منه عشرة آلاف دينار‏.‏

فدخل عليه أهله محزونين وقالوا له‏:‏ من أين لك عشرة آلاف دينار‏.‏

فقال‏:‏ ما يؤخذ مني عشرة ولا خمسة ولا أربعة‏.‏

قالوا من أين لك قال‏:‏ إني ظلمت رجلاً فألزمته ثلاثة آلاف فما يؤخذ مني أكثر منها‏.‏

فلما أدى ثلاثة آلاف دينار وقع الخليفة بإطلاقه ومسامحته في الباقي‏.‏

وأنا أقول عن نفسي‏:‏ ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكنني أن

وربما تأولت فيه بعد فأرى العقوبة‏.‏

فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب فقل أن يسلم منه‏.‏

وليجتهد في التوبة فقد روي في الحديث ما من شيء أسرع لحاقاً بشيء من حسنة حديثة

لذنب قديم‏.‏

ومع التوبة يكون خائفاً من المؤاخذة متوقعاً لها فإن لله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم

السلام‏.‏

وفي حديث الشفاعة يقول آدم ذنبي ويقول إبراهيم وموسى ذنبي‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ من يعمل سوءاً يجز به ‏"‏ خبر فهو يقتضي أن لا يجاوز عن مذنب

وقد عرفنا قبول التوبة والصفح عن الخاطئين‏.‏

فالجواب من وجهين‏:‏ أحدهما أن يحمل على من مات مصراً ولم يتب فإن التوبة تجب ما

قبلها‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على إطلاقه وهو الذي اختاره أنا وأستدل بالنقل والمعنى‏.‏

أما النقل فإنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله أو نجازى بكل ما نعمل فقال‏:‏

ألست تمرض ألست تحزن أليس يصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به‏.‏

فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم ثم آثر لذة المعصية لحظة‏.‏

  فصل حديث النفس اللوامة

تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق فحاسبتها قبل أن تحاسب ووزنتها قبل أن توزن فرأيت

اللطف الرباني من بدأ الطفولة وإلى الآن أرى لطفاً بعد لطف وستراً على قبيح‏.‏

وعفواً عما

يوجب عقوبة‏.‏

وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان‏.‏

ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً‏.‏

ولو كشف للناس بعضها لاستحييت‏.‏

ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب حتى يظن فيّ ما يظن في الفساق‏.‏

بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي وقعت بتأويلات فاسدة‏.‏

فصرت إذا دعوت أقول‏:‏ اللهم بحمدك وسترك علي اغفر لي‏.‏

ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي‏.‏

ثم أنا أتقاضى منه مراداتي ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ولا بشكر على نعمة‏.‏

وقد كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود‏.‏

فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فكتبتها ههنا‏.‏

قال لنفسه‏:‏ يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر‏.‏

وثمرة هذا أن يقال‏:‏ يا مناظر‏.‏

كما يقال للمصارع الفاره‏.‏

ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء وهي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً

اسم مناظر‏.‏

ثم ينسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب‏.‏

هذا إن تأخر الأمر إلى موتك بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له وصار الاسم له‏.‏

والعقلاء عن الله تشاغلوا بما - إذا انطووا - نشرهم وهو العمل بالعلم والنظر الخالص لنفوسهم‏.‏

أف لنفسي وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم وما عبق بها فضيلة‏.‏

إن نوظرت شمخت وإن نوصحت تعجرفت وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم

وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف‏.‏

فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة‏.‏

توفر في المخالطة عيوباً تبلى ولا تحتشم نظر الحق إليها‏.‏

أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها‏.‏

والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب‏.‏

والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف سترني وأنا أتهتك ويجمعني وأنا أتشتت‏.‏

وغداً يقال‏:‏ مات الحبر العالم الصالح ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني‏.‏

والله لأنادين على نفسي نداء المتكشفين معائب الأعداء‏.‏

ولأنوحن نوح الثاكلين إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المكتومة والخلال المغطاة التي قد

سترها من خبرها وغطاها من علمها‏.‏

والله ما أجد لنفسي خلة استحسن أن أقول متوسلاً بها‏.‏

اللهم اغفر لي كذا بكذا‏.‏

والله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ووقاية تحميني‏.‏

مع تسلط الأعداء‏.‏

ولا عرضت حاجة فممدت يدي إلا قضاها‏.‏

هذا فعله معي وهو رب غني عني‏.‏

وهذا

فعلي وأنا عبد فقير إليه‏.‏

ولا عذر لي فأقول ما دريت أو سهوت‏.‏

والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ونور قلبي بالفطنة حتى أن الغائبات والمكتومات

تنكشف لفهمي‏.‏

وارحماني لمقامات الرجل الفطناء‏.‏

يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو

بي‏.‏

واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي‏.‏

واخذلاني عند إقامة الحجة سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن‏.‏

اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار‏.‏

وقد جئتك بعد الخمسين وأنا من خلق المتاع‏.‏

وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم‏.‏

فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمك ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك فاغفر لي سالف

فعلي‏.‏

  فصل عداوة الأقارب

عداوة الأقارب صعبة وربما دامت كحرب بكر وتغلب ابني وائل وعبس وذبيان ابني بغيض

والأوس والخزرج ابني قيلة‏.‏

قال الجاحظ ركدت هذه الحرب أربعين عاماً‏.‏

فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم ويرفعهم جهده ويرفق بهم لعله يسلم‏.‏

قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لي أقارب أصلهم فيقطعوني فقال‏:‏ فكأنما تسفهم

المل ولن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك‏.‏

  فصل حسن العشرة

رأيت كلاب الصيد إذا مرت بكلاب المحلة نبحتها هذه وبالغت وأسرعت خلفها وكأنها تراها

مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك‏.‏

ورأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها ولا تعيرها الطرف ولا تعد نباحها شيئاً فرأيت أن

كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب‏.‏

لأن تلك غليظة البدن كثيفة الأعضاء لا أمانة لها وهذه لطيفة دقيقة الخلقة ومعها آداب قد

ناسبت خلقتها اللطيفة‏.‏

وأنها تحبس الصيد على مالكها خوفاً من عقابه أو مراعاة شكر نعمته عليها‏.‏

فرأيت أن الأدب وحسن العشرة يتبع لطافه البدن وصفاء الروح‏.‏

وهكذا المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده ولا يعد شيئاً إذ هو في واد وذاك في واد‏.‏

  فصل أسرار الحكمة

ملاحظته من أهم الأشياء‏.‏

ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله‏.‏

ويعلم أنه حكيم ومالك وأنه لا يعبث‏.‏

فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه وسل للحكيم المالك‏.‏

فإذا طالبه العقل

قال‏:‏ ما بانت لي فيجب علي تسليم الأمر لمالكه‏.‏

وإن أقواماً نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق

نسبت إلى ضد الحكمة فنسبوا الخالق إلى ذلك‏.‏

وهذا الكفر المحض والجنون البارد‏.‏

والواجب نسبة الجهل إلى النفوس فإن العقول قاصرة عن مطالعة حكمته‏.‏

وأول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طيناً على نار والعقل يرى النار أفضل فعاب

حكمته‏.‏

وعمت هذه المحنة خلقاً ممن ينسب إلى العلم وكثير من العوام‏.‏

فكم قد رأينا عالماً يعترض وعامياً يرد فيكفره وهذه محنة قد شملت أكثر الخلق‏.‏

وقد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات والخراج والجزية والغنائم والكفارات ليستغني

بها الفقراء فاختص بذلك الظلمة‏.‏

وصانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها فجاع الفقير‏.‏

فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة ولا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء‏.‏

وقد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين من حبسهم الحقوق وابتلاء الفقراء بصبرهم عن

حظوظهم‏.‏

وأكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من اعتراض يخرج إلى الكفر

فتخرج النفس كافرة‏.‏

فكم عامي يقول‏:‏ فلان قد ابتلى وما يستحق‏.‏

ومعناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب وقد قال بعض الخلعاء‏:‏

أيا رب تخلق أقمار ليل وأغصان بان وكثبان رمل

وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل

ومثل هذا ينشده جماعة من العلماء ويستحسنونه وهو كفر محض‏.‏

وما فهم هؤلاء سر النهي ولا معناه لأنه ما نهى عن العشق وإنما نهى عن العمل بمقتضى العشق

وفي الامتناع عن المشتهى دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء‏.‏

فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم‏.‏

وتسليم النفوس إلى القتل والجهاد دليل على اليقين بالجزاء‏.‏

ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل‏.‏

كلا‏.‏

لو تأمل وصبر قليلاً لربح كثيراً‏.‏

ولو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء والعوام لطال‏.‏

ومن أحسن الناس حالاً في ذلك ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوماً واشتد جوعه

فجلس على الجسر وقد أمضه الجوع‏.‏

فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج فقال‏:‏ لمن هذه فقالوا‏:‏ لعلي بن بلتق غلام الخليفة‏.‏

فمرت جواز مستحسنات فقال‏:‏ لمن هذه فقالوا‏:‏ لعلي بن بلتق‏.‏

فمر به رجل فرآه وعليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما ورمى بهما وقال‏:‏ هذه لعلي بن

بلتق وهذان لي‏.‏

ونسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول ويعترض ويفعل أهل هذه المجاعة‏.‏

فيا معترضين وهم في غاية النقص على من لا عيب في فعله‏.‏

أنتم في البداية من ماء وطين وفي

وكم من رأي يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه‏.‏

ثم المعاصي منكم زائدة في الحد‏.‏

فما فيكم - بعد - إلا الاعتراض على المالك الحكيم‏.‏

ولو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى‏.‏

ولو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم ولم يعدهم كان ذلك له لأنه مالك لكنه

بفضله وعد بالإعادة والجزاء والبقاء الدائم في النعيم‏.‏

فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب ذلك إلى قصور علمك‏.‏

وقد ترى مقتولاً ظلماً وكم قد قتل وظلم حتى قوبل ببعضه‏.‏

وقل أن يجري لأحد آفة إلا ويستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا ورأينا الجزاء

وحده‏.‏

فسلم تسلم واحذر كلمة اعتراض أو إضمار فربما أخرجتك من دائرة الإسلام‏.‏

  فصل يوم العيد ويوم القيامة

رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة‏.‏

فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم

كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم فمنهم من زينته الغاية ومركبه النهاية ومنهم المتوسط

ومنهم المرذول وعلى هذا أحوال الناس يوم القيامة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ‏"‏ أي ركبانا ‏"‏ ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً ‏"‏

أي عطاشاً‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ يحشرون ركباناً ومشاة وعلى وجوههم‏.‏

ومن الناس من يداس في زحمة العيد وكذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة‏.‏

ومن الناس يوم العيد الغني المتصدق‏.‏

كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل

المعروف في الآخرة‏.‏

ومنهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى‏.‏

كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لأهل الكبائر‏.‏

ومنهم من لا يعطف عليه ‏"‏ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ‏"‏‏.‏

والأعلام منشورة في العيد‏.‏

كذلك أعلام المتقين في القيامة والبوق يضرب‏.‏

كذلك يخبر بحال العبد فيقال‏:‏ يا أهل الموقف إن فلاناً قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها وإن

فلاناً قد شقى شقاوة لا سعادة بعدها‏.‏

ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة ويخبرون بامتثال الأوامر‏:‏ ‏"‏ أولئك المقربون ‏"‏

ومن هو دونهم يختلف حاله‏.‏

فمنهم من يرجع إلى بيت عامر‏:‏ ‏"‏ بما أسلفتم في الأيام الخالية ‏"‏‏.‏

ومنهم متوسط ومنهم من يعود إلى بيت قفر‏:‏ ‏"‏ فاعتبروا يا أولي الأبصار ‏"‏‏.‏

  فصل للعلماء والزهاد

يتضمن نصيحة للعلماء والزهاد‏:‏ يا قوم قد علمتم‏:‏ أن الأعمال بالنيات وقد فهمتم قوله تعالى‏:‏

‏"‏ ألا للّه الدين الخالص ‏"‏ وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدم النية

وتصح‏.‏

أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل والصياح وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون

المغالبة‏.‏

أو ما سمعتم‏:‏ من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه

الناس إليه لم يرح رائحة الجنة‏.‏

ثم يقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها وقد كان السلف يتدافعونها‏.‏

ويا معشر المتزهدين إنه يعلم السر وأخفى أتظهرون الفقر في لباسكم وأنتم تستوفون شهوات

النفوس‏.‏

كان ابن سيرين يضحك ويقهقه فإذا خلا بكى أكثر الليل‏.‏

قال سفيان لصاحبه‏:‏ ما أوقحك تصلي والناس يرونك وتنام حيث لا ترى‏.‏

أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

آه للمرائي من يوم ‏"‏ وحُصل ما في الصدور ‏"‏ وهي النيات‏.‏

فأفيقوا من سكركم وتوبوا من زللكم واستقيموا على الجادة‏:‏ ‏"‏ أن تقول نفس يا حسرتا على

ما فرطت في جنب اللّه ‏"‏‏.‏

  فصل السلوك الحق والعلم

رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة جائزين على ما ألفوا من العادة‏.‏

وقد يخلص منهم فريقان علماء وعباد‏.‏

فتأملت جمهور العلماء فرأيتهم في تخليط منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا ويعرض

عن معاملات الآخرة‏.‏

إما لجهله بها أو لثقل أمرها عليه فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم ويتبع في

الباقي العادات‏.‏

ومنهم من هو واقف مع صورة العلم غافل عن المقصود وهو العمل وفيهم من يخالط

السلطان فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب والظلم ولا يمكنه الإنكار‏.‏

وربما مدح هؤلاء ويتأذى السلطان بصحبته فيقول‏:‏ لولا أني على صواب ما جالسني هذا‏.‏

ويتأذى العوام فيقولون‏:‏ لولا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العالم‏.‏

ورأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم وينسون أن اليهود من بني إسرائيل‏.‏

وأما الفريق الثاني وهم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط‏.‏

أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير

الجادة في أكثر عملهم قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبا فيها دفائن قبيحة وأحاديث غير

صحيحة ويأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة‏.‏

مثل كتب الحارث المحاسبي وأبي عبد الله الترمذي وقوت القلوب لأبي طالب المكي وكتاب

الإحياء لأبي حامد الطوسي‏.‏

فإذا فتح المبتدىء عينه وهم بسلوك الطريق بهذه الكتب حملته إلى الخطايا لأنهم قد بنوا على

أحاديث محالة‏.‏

ويذمون الدنيا ولا يدرون ما المذموم منها‏.‏

فيتصور المبتدىء ذم ذات الدنيا فيهرب المنقطع إلى الجبل وربما فاتته الجماعة والجمعة

ويقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع أو يأكل الباقلاء والعدس فيحدث له قراقر‏.‏

وإنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولاً بالناقة ليصل‏.‏

ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل

تحصيل قوت نفسه‏.‏

وربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف والمتزهدين فيتبعهم المريد فيتأذى بذلك‏.‏

ومتى رددنا ذلك المنقول وبينا خطأ فاعله قال الجهال‏:‏ أترد على الزهاد‏.‏

وإنما ينبغي اتباع الصواب ولا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس‏.‏

فإنا نقول‏:‏ قال أبو حنيفة ثم يخالفه الشافعي وإنما ينبغي أن يتبع الدليل‏.‏

قال المروزي‏:‏ مدح أحمد بن حنبل النكاح فقلت له قد قال‏:‏ إبراهيم بن أدهم فصاح وقال‏:‏

وقعنا في بنيات الطريق عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

وتكلم أحمد في الحارث المحاسبي ورد على سري السقطي حين قال‏:‏ لما خلق الله الحروف

وقف الألف وسجدت الياء فقال‏:‏ نفروا الناس عنه‏.‏

فالحق لا ينبغي أن يحابى فإنه جد‏.‏

وإني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة وصار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم فيقال‏:‏

قال أبو طالب المكي‏:‏ كان من السلف من يزن قوته بكربة فينقص كل يوم‏!‏‏!‏‏!‏‏.‏

وهذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وإنما كانوا يأكلون دون

فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهيٌ عنه‏.‏

ويقول قاد داود الطائي لسفيان‏:‏ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت‏.‏

وكان ماؤه

في دن‏.‏

وما علم أن للنفس حظاً وأن شرب الماء الحار يرهل المعدة ويؤذي وأن رسول الله صلى الله

عليه وسلم كان يبرد الماء‏.‏

ويقول آخر منهم‏:‏ منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه‏.‏

ويقول آخر‏:‏ أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي‏.‏

أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة‏.‏

هذا شيء ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الورع حسناً ولكن لا على

حمل المشاق الشديدة‏.‏

وهذا بشر الحافي يقول‏:‏ لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث وهذا تعليل لا يصلح لأن الإنسان

مأمور بالنكاح وهو من أكبر المشتهى وكان بشر حافياً حتى قيل له الحافي ولو ستر أمره

بنعلين كان أصلح‏.‏

والحفاء يؤذي العين وليس من أمر الدنيا في شيء‏.‏

فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على مال والمتزهدون عليه اليوم‏.‏

‏.‏

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويمزح ويختار المستحسنات ويسابق عائشة

رضي الله عنها وكان يأكل اللحم ويحب الحلوى ويستعذب له الماء‏.‏

وعلى هذا كان طريقة أصحابه فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة وكلها على غير

الجادة‏.‏

ويحتجون بقول المحاسبي والمكي ولا يحتج أحد منهم بصحابي ولا تابعي ولا بإمام من أئمة

الإسلام‏.‏

فإن رأوا عالماً لبث ثوباً جميلاً أو تزوج مستحسنة أو أفطر بالنهار أو ضحك عابوه‏.‏

فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم‏.‏

حتى أن بعضهم يقول‏:‏ منذ ثمانين سنة ما اضطجعت‏.‏

ويقول آخر‏:‏ حلفت لا أشرف الماء سنة‏.‏

وهؤلاء على غير الصواب فإن للنفس حقاً‏.‏

فأما من ساء قصده ممن نافق وراءى لاجتلاب الدنيا وتقبيل الأيدي فلا كلام معه وهم

جمهور المتصوفة فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة وما معهم أحسن من

وإنما رقع القدماء للفقر‏.‏

فهم في اللذات وجمع المال وأخذ الشبهات واستعمال الراحة واللعب

ومخالطة السلاطين‏.‏

وهؤلاء قد كشفوا القناع وباينوا زهد أوائلهم بلى‏.‏

أعجب منهم من ينفق عليهم‏!‏‏!‏‏.‏

  فصل مثل الآدمي

إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها‏.‏

فمن أمثلة أحواله القمر الذي يبتديء صغيراً ثم يتكامل بدراً ثم يتناقص بانمحاق وقد يطرأ

عليه ما يفسده كالكسوف‏.‏

فكذلك الآدمي أوله نطفة ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح فإذا تم كان بمنزلة البدر الكامل‏.‏

ثم تتناقص أحواله بالضعف فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر‏.‏

قال

الشاعر‏:‏

والمرء مثل هلال عند طلعته يبدو ضئيلاً لطيفاً ثم يتسق

يزداد حتى إذا ما تم أعقبه كر الجديدين نقصاً ثم ينمحق

ومن أمثلة حاله دود القز فإنه يكون حياً إلى أن يبتديء نبات قوته وهو ورق الفرصاد‏.‏

ثم ينتقل من حال إلى حال كانتقال الطفل‏.‏

ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب ثم ينتبه فيحرص على الأكل كحرص الشره على

تحصيل الدنيا‏.‏

ثم يسدي على نفسه كما يخطب الآدمي الأوزار على دنبه فيرتهن في ذلك الحبس كما يرتهن

الميت في قبره‏.‏

ثم يقرض فيخرج خلقاً آخر كما تنصر الموتى غرلا بهماً‏.‏

وقد دله على البعث تكون النطفة كالميت‏.‏

ثم تصير آدمياً‏.‏

وإلقاء الحب تحت الأرض فيفسد ثم يهتز خضراً‏.‏

إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة

  فصل الهوى العاجل

إنما فضل العقل بتأمل العواقب فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة ولا ينظر إلى

عاقبتها‏.‏

فإن اللص يرى أخذ المال وينسى قطع اليد‏.‏

والبطال يرى لذة الراحة وينسى ما تجني من فوات

فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر وإذا احتاج سأل فذل فقد أربى ما حصل له من التأسف

على لذة البطالة‏.‏

ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا‏.‏

وكذلك شارب الخمر يلتذ تلك الساعة وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة‏.‏

وكذلك الزنا فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة وينسى ما يجني منه من فضيحة الدنيا والحد‏.‏

وربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به وتسلسل الأمر‏.‏

فقس على هذه وانتبه للعواقب ولا تؤثر لذة تفوت خيراً كثيراً وصابر المشقة تحصل ربحاً

وافراً‏.‏

  فصل اللذات المعنوية

ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد‏.‏

بلى قد يقع في صفاء حالهما كدر‏.‏

وهو أن العالم يشتغل بالعلم أو بالانقطاع عن الكسب

وقد يكون له عائلة فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله‏.‏

وكذلك الزاهد‏.‏

فينبغي للعالم والعابد أن يتحركا في معاش كنسخ بأجرة أو علم الخوص وإن فتح له بشيء اقتنع

كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ ديناراً يتقوت بها‏.‏

ومتى لم يقنع أفسدت مخالطة السلاطين والعوام دينه‏.‏

وفي الناس من يريد التوسع في المطاعم ومنهم من لا يوافقه خشن العيش وهيهات أن يصح

الدين مع تحصيل اللذات‏.‏

وإذا قنع العالم والزاهد بما يكفي لم يتبذل أحدهما للسلطان ولم يستخدم بالتردد إلى بابه

ولم يحتج الزاهد إلى تصنع‏.‏

والعيش اللذيذ للمنقطع الذي لا يتبذل به ولا يحمل منه‏.‏

  فصل قدر الأفهام

ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول والفروع‏.‏

فترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم‏:‏ ينزل بذاته

إلى السماء وينتقل‏.‏

وهذا فهم رديء لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان ويوجب ذلك كون المكان أكثر منه

ويلزم منه الحركة وكل ذلك محال على الحق عز وجل‏.‏

وأما في الفروع فكما يروى عن داود أنه في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يبولن أحدكم في الماء

الدائم ثم يتوضأ منه‏.‏

فقال‏:‏ إن بال غيره جاز‏.‏

فما يفهم المراد من التنجيس بل يأخذ بمجرد اللفظ‏.‏

وكذلك يقول‏:‏ لحم الخنزير حرام لا جلده نعوذ بالله من سوء الفهم‏.‏

وكذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم‏:‏

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

والجفنات عدد يسير فلو قال‏:‏ الجفان لكان أبلغ ولو قال‏:‏ بالدجى لكان أحسن ويقطرن دليل

على القلة وكذلك قول القائل‏:‏

همها العطر والفراش ويعلو - ها لجين منظّم ولآلى

وهذا قاصر فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها‏.‏

إنما المادح هو القائل‏:‏

ألم تر أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب

وكذا قول القائل‏:‏

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني حتى إذا قلت هذا صادق نزعا

ولو كان صادقاً في المحبة لما كان له قلب يخاطبه‏.‏

وإذا خاطبه في الهجر لم يوافقه‏.‏

إنما المحب

يقولون لو عاتبت قلبك لارعوى فقلت وهل للعاشقين قلوب

ومثل هذا إذا نوقش كثير‏.‏

فأقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني‏.‏

فصل حقيقة المتعة

من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على

اللذة أضعافاً‏.‏

فمن اللذات النساء فربما تثبت المستحسنة وربما لم تحب الزوج فمتى علم ذلك تعزل عنها

وربما خانت وذلك الهلاك‏.‏

فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على الالتذاذ‏.‏

ومن اللذات الولد ومقاسات البنت إلى أن تتزوج وما تلقى من زوجها وخوف عارها محن

قبيحة‏.‏

والابن إن مرض ذاب الفؤاد وإن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف وإن كان عدواً فمراده

هلاك الأب ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب‏.‏

ثم لا يلبث أن تتغير حليته فيصبر مبغوضاً مع ما سبق من الهتكة والإثم‏.‏

وكم قد غلبت شهوة رجل وطيء الجواري السود فجاء الولد أسود فبقي عاراً عليه‏.‏

ومن هذا الجنس الالتذاذ بالمال وفي تحصيله آثام وفراقه حسرة وذهاب العمر في غبن‏.‏

وهذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى

سلامة الدين والبدن والعافية ويهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته‏.‏

ومن صبر على ما يكره النفع في العاقبة التذ أضعافاً كطالب العلم فإنه يتعب يسيراً وينال خير

الدارين مع سلامة العاقبة‏.‏

ولذة البطالة تعقب عدم العلم والعمل فيزيد الأسى على اللذة أضعافاً‏.‏

فالله الله أن يغلبك هواك العاجل ومتى هم الهوى بالتوثب فامنعه وزن عاجله بآجله‏.‏

وما

يتذكر إلا أولو الألباب‏.‏

  فصل تلبيس إبليس

رأيت إبليس قد احتال بفنون الحيل‏.‏

على الخلق وأمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح

السالك فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل وشغلهم بأمور الحس ولا يلتفتون إلى مشورة

فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب اعترض فكفر‏.‏

فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر والدنيا لا يفعلان وإنما هو عيب للمقدر‏.‏

ومنهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة فيقول‏:‏ أي فائدة في نقض المبنى‏.‏

وزعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض وأنكروا البعث‏.‏

ويقولون ما جاء من ثم أحد‏.‏

ونسوا أن الوجود ما انتهى بعد ولو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عياناً ولا يصلح أن يدل على

الأحياء بالأحياء‏.‏

ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة

يشاركهم فيها العوام‏.‏

فحسن لهم علوم الكلام وصاروا يحتجون بقول بقراط وجالينوس

وفيثاغورس‏.‏

وهؤلاء ليسوا بمتشرعين ولا تبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم

أنفسهم‏.‏

وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث فيثبت الإيمان في

قلبه‏.‏

فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل وينبذ أحاديث الرسول

وأصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية‏.‏

ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولي والجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم بواقعاتهم‏.‏

فيقول المعتزلة إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة ويخالفون قول رسول الله صلى الله عليه

وسلم‏:‏ ‏"‏ إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ‏"‏‏.‏

فأوجب هذا الحديث إيثار

رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيتها‏.‏

وقد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن وقالوا مخلوق فزالت حرمته من القلوب‏.‏

وعن السنة وقالوا أخبار آحاد‏.‏

وإنما مذاهبهم السرقة من بقراط وجالينوس‏.‏

وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نفسه عن تعب الصلاة والصوم وقد كان كبار العلماء

يذمون علم الكلام حتى قال الشافعي‏:‏ حكمي فيهم أن يركبوا على البغال ويشهروا ويقال‏:‏ هذا

جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام‏.‏

وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم‏.‏

فالله الله من مخالطة المبتدعة‏.‏

وعليكم بالكتاب والسنة ترشدوا‏.‏

رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان وكان القدماء يحذرون من ذلك قال الفضيل‏:‏

أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة‏.‏

ودخلوا على رجل من السلف فقالوا‏:‏ لعلنا شغلناك فقال‏:‏ أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة

لأجلكم‏.‏

وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي فرأى عنده جماعة فقال‏:‏ صرت مناخ البطالين

ثم مضى ولم يجلس‏.‏

ومتى لان المزور طمع فيه الزائر فأطال الجلوس فلم يسلم من أذى‏.‏

وقد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال‏:‏ إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما

تريدون القيام‏.‏

وممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس قال له رجل‏:‏ قف أكلمك قال‏:‏ فأمسك

الشمس‏.‏

وقيل لكرز بن وبرة‏:‏ لو خرجت إلى الصحراء فقال‏:‏ يبطل الزوجار‏.‏

وكان داود الطائي يستف الفتيت ويقول‏:‏ بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية‏.‏

وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى فقال إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج

وأوصى بعض السلف أصحابه فقال‏:‏ إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في

طريقه‏.‏

ومتى اجتمعتم تحدثتم‏.‏

واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم أنه قال‏:‏ من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة‏.‏

فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل وهذه الأيام مثل المزرعة فكأنه قيل

للإنسان‏.‏

كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر

ويتوانى‏.‏

والذي يعين على اغتنام الزمان الانفراد والعزلة مهما أمكن والاختصار على السلام أو حاجة

مهمة لمن يلقى‏.‏

وقلة الأكل فإن كثرته سبب النوم الطويل وضياع الليل‏.‏

ومن نظر في سير السلف وآمن بالجزاء بان له ما ذكرته‏.‏

  فصل آداب المعاشرة

ينبغي للعاقل أن يتخير امرأة صالحة من بيت صالح يغلب عليه الفقر لترى ما يأتيها به كثيراً

فأما الشيخ فإذا إذا تزوج صبية آذاها وربما فجرت أو قتلته أو طلبت الطلاق وهو يحبها

فيتأذى‏.‏

وليتمم نقصه بحسن الأخلاق وكثرة النفقة‏.‏

ولا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيراً فتمل ولا تبعد عنه فينساها‏.‏

ولتكن وقت قربها إليه كاملة النظافة متحسنة ولتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله فإن

جسم الإنسان ليس بمستحسن‏.‏

وكذلك ينبغي أن لا يريها جسمه وإنما الجماع في الفراش‏.‏

ورأى كسرى يوماً كيف يسلخ الحيوان ويطبخ فتقلبت نفسه ونفى اللحم فذكر ذلك لوزيره

فقال‏:‏ أيها الملك الطبيخ على المائدة والمرأة في الفراش ومعناه لا تفتش على ذلك‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني

وقام ليلة عرياناً فما رأيت جسمه قبلها‏.‏

وهذا الحزم وبذلك لا يعيب الرجل المرأة لأنه لم ير عيوبها‏.‏

وليكن للمرأة فراش وله فراش فلا يجتمعان إلا في حال الكمال‏.‏

ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة متبذلة تقول‏:‏ هذا أبو أولادي ويتبذل هو فيرى

وهذا فصل ينبغي تأمله والعمل به فإنه أصل عظيم‏.‏

  فصل أداء الأمانات

لا عيش في الدنيا إلا للقنوع باليسير فإنه كلما زاد الحرص على فضول العيش زاد الهم وتشتت

القلب واستعبد العبد‏.‏

وأما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه ولا يبالي بمن هو مثله إذ عنده ما عنده‏.‏

وإن أقواماً لم يقنعوا وطلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم وذلوا لغيرهم‏.‏

وخصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فاستعبدوهم ورأوا المنكرات فلم يقدروا

على إنكارها وربما مدحوا الظالم اتقاء لشره‏.‏

فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا‏.‏

ومن أقبح الناس حالاً من تعرض للقضاء والشهادة ولقد كانتا مرتبتين حسنتين‏.‏

وكان عبد الحميد القاضي لا يحابي فبعث إلى المعتضد وقال له‏:‏ قد استأجرت وقوفاً فأد

أجرتها ففعل‏.‏

وقال له المعتضد‏:‏ قد مات فلان ولنا عليه مال فقال‏:‏ أنت تذكر لما وليتني قلت لي‏:‏ قد

وكذلك كان الشهود دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم‏:‏ اشهدوا على مولانا بكذا

فشهدوا فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أشهد عليك بما في هذا الكتاب

فقال‏:‏ أشهد‏.‏

قال‏:‏ إنه لا يكفي في ذلك لا أشهد حتى تقول نعم قال‏:‏ نعم‏.‏

فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل خصوصاً من يتقرب إليه بالمال ليستشهد فتراه

يسحب ليشهد على ما لا يرى‏.‏

قال لي أبو المعالي بن شافع‏:‏ كنت أحمل إلى بعض أهل السواد وهو محبوس وأشهد عليه‏.‏

وأنا أستغفر الله من ذلك‏.‏

وليس للشهود جراية فيحملون ذلك لأجلها وإنما الذي يحصل جر الطيلسان وطرق الباب

وقول المعرف‏:‏ حرس الله نعمتك شهادة‏.‏

ولما قيل لإبراهيم النخعي‏:‏ تكون قاضياً‏.‏

لبس قميصاً أحمر وجلس في السوق‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا لا

يصلح‏.‏

ودخل بعض الكبار على الرشيد - وقد أحضره ليوليه القضاء - فسلم وقال له‏:‏ كيف أنت

وكيف الصبيان‏.‏

وما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلاً في أكثر القلوب‏.‏

نسأل الله سبحانه سلامة للدين فإنه قادر‏.‏

  فصل حقيقة الحكمة الإلهية

قد تكرر معناه في هذا الكتاب إلا أن عادته على النفوس مهمة لئلا يغفل عنه مثله‏.‏

ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث وهذا العلم يوجب نفي الاعتراض

على القدر‏.‏

وقد لهج خلقٌ بالاعتراض قدحاً في الحكمة وذلك كفر‏.‏

وأولهم إبليس في قوله‏:‏ ‏"‏ خَلَقْتَنيِ مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏"‏‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة‏.‏

وقد رأيت من كان فقيهاً دأبه الاعتراض‏.‏

وهذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل ولو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا

حسن أن يعترض عليه‏.‏

فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته فاعتراض الناقص الجاهل عليه جنون‏.‏

فأما اعتراض الخلعاء فدائم لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم فمتى انكسر لأحدهم

غرض اعترض‏.‏

وفيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول‏:‏ بنى ونقض‏.‏

وكان لنا رفيق قرأ القرآن والقراءات وسمع الحديث الكثير ثم وقع في الذنوب وعاش أكثر من

سبعين سنة فلما نزل به الموت ذكر لي أنه قال‏:‏ قد ضاقت الدنيا إلا من روحي‏.‏

ومن هذا الجنس سمعت شخصاً يقول عند الموت‏:‏ ربي يظلمني وهذا كثير‏.‏

وكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم واعتراضاتهم الباردة‏.‏

ولو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة ومارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق لما اعترضوا‏.‏

والذي طلبوه من السلامة وبلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا‏.‏

فهم كالزورجاري يتلوث بالطين فإذا فرغ لبس ثياب النظافة‏.‏

ولما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة بني بناء يقبل

الدوام‏.‏

وبعد هذا فقل للمعترض‏:‏ ‏"‏ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ ليَقْطَعْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظَ ‏"‏‏.‏

قل له‏:‏ إن اعترض لم يمنع ذلك جريان القدر وإن سلم جرى القدر‏.‏

وما أحسن سكوت وضاح اليمن لما اختبأ في صندوق فقال السلطان‏:‏ أيها الصندوق إن كان

فيك ما نظن فقد محونا أثرك‏.‏

وإن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح‏.‏

فلو أنه صاح ما انتفع بشيء ولربما أخرج فقتل أقبح قتلة‏.‏

  فصل قيمة السرور في الدنيا

من تلمح أحوال الدنيا علم أن مراد الحق سبحانه اجتنابها‏.‏

فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة وإلى جانب كل راحة تعباً وآخر كل لذة

نقصاً يزيد عليها‏.‏

وما رفع شيء من الدنيا إلا ووضع‏.‏

أحب الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فجاء حديث الإفك‏.‏

ومال إلى زينب فجاء‏:‏ ‏"‏ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ‏"‏‏.‏

ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده كما قال الشاعر‏:‏

أتم الحزن عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً

فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة

وترك الشواغل فيجتمع الهم في خدمة الحق‏.‏

ومن عدل عن ذلك ندم على الفوات‏.‏

  فصل العقل

العاقل يدير بعقله عيشته في الدنيا‏.‏

فإن كان فقيراً اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق وقلل العلائق واستعمل

القناعة فعاش سليماً من منن الناس عزيزاً بينهم‏.‏

وإن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق‏.‏

ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء‏.‏

كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين‏.‏

وينبغي التوسط في الأحوال وكتمان ما يصلح كتمانه‏.‏

ولقد وجد بعض الغسالين مالاً فأكثر النفقة فعلم به فأخذ منه المال وعاد إلى الفقر‏.‏

وإنما التدبير حفظ المال والتوسط في الإنفاق وكتمان ما لا يصلح إظهاره‏.‏

ومن الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج وإن كان كثيراً

طلبت زيادة الكسوة والحلى‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ‏"‏ وكذلك الولد‏.‏

وكذلك الأسرار ينبغي أن تحفظ وأن يحذر منها ومن الصديق فربما انقلب فقد قال

الشاعر‏:‏

إحذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة

فلربما انقلب الصدي - ق فكان أعلم بالمضرة

بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم من صيد الخاطر

متقصراً فيه على ما به التخلي من الأمراض النفسية والتحلي بالآداب الشرعية والأخلاق

المرضية‏.‏

جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ والإرشاد وأنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية

العباد‏.‏

والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏